الأدب
الإسلامي
ينابيع
القوة
(1)
بقلم
: أديب
العربية
الكبير
معالي
الدكتور عبد
العزيز عبد
اللّه
الخويطر
الرياض
، المملكة
العربية
السعودية
القوة
صفة ممدوحة في
كثير من
الأحيان،
والمتصف بها
في مجال مدحها
محمود مقدر،
لأن فيه صفةً
ليس كل إنسان
يستطيع أن
ينالها، فلا
يجوزها إلا
صاحب
الاستعداد
الفطري في
الأساس، ويقويها
المران
والتدريب.
والقوة
لا تقتصر على
العمل، ولا
تنحصر في أعضاء
الجسم، ولكنها
تتعدى إلى غير
ذلك، فالقول
قد يكون
قويًا، والصبر،
والتحمل قد
يكونان
قويين، بل إن
العزم
والتصميم
والنية قد
تكون القوة من
صفاتها.
والقول
نفسه مجال
القوة فيه ليس
له حد، فهو متنوع
الجوانب،
مختلف
الأقسام،
والقوة فيه تأتي
من زوايا
متعددة، وقد
تكون فيه
عالية صارخة،
وقد تكون
متدنية
متواضعة
هادئة.
وتأثير
القوة ليس له
حكم عام، يوضع
فيه، فلا يخرج
منه، ولكن بعض
الأمور في
القوة تتماثل
في المظهر، ثم
تتماثل في
النتيجة؛
والتأثير يتحدد
في ضوء تقدير
صاحب القوة،
يأتي منه بما
يراه يؤدي
الغرض، ويوصل
إلى الهدف،
وتتوقف النتجية
على صواب
تقديره، أو
خطئه.
وقد
تتناطح قوتان
في ميدان
واحد،
وتتصارعان على
هدف معين، وكل
واحدة من
القوتين من
طبيعة تختلف
عن الأخرى،
وقد تغلب
الهادئة، ذات
الصوت
الخافت،
والخطوات
السرية
المتسللة؛
لأن الهادرة
اعتمدت على
المظهر، ورغم
قوتها في الظاهر
إلا أنها ضعيفة
في الداخل،
أما الهادئة
قاعتمدت على
الداخل
المختفي،
واختفاؤه
أكسبه مناعة
من إضعاف
العَدُوِّ
لَهُ.
وخير
مثل لذلك
الجيوش،
وتطاحنها في
ميادين القتال،
فقد تخفق قوة
السيف والرمح
والنبل والدرع
والترس، أمام
المكر،
والخديعة،
والحيلة،
فالأولى لها
بريق، وجلجة
وصرير، وهذه
لا صوت لها،
ولا نغمة، تدب
بين الصفوف،
فلا يُدْرى
عنها، وتتوغل
والناس في
غفلة، وتأتي
النتيجة
مضمونة،
مؤكدة، إذا
اتحدت القوتان
لأحد
العنصرين،
وهو ما تسير
عليه الجيوش
الحديثة، فهي
تعمل الحيلة،
وتتقن التخطيط،
وتخفيه،
ويأتي ضمن ذلك
الخداع،
والتجسس، والإِيهام،
والتدليس،
والمعدات
والأجهزة والجنود،
فتجتمع من ذلك
قوى، لا يخترق
حصنها الإِخفاق،
إلا إذا كان
الطرف الآخر
فاق بوسائل مماثلة،
مع إتقان
متناهٍ،
ومقدرة لا
مثيل لها.
ومن
المتعة أن يقف
المرء يرقب
أعمال الناس،
وما في بعضها
من قوة، وكيف
جاءت هذه
القوة، وكيف
سارت، وإلى
ماذا انتهت؛
ويفاجأ المرء
بما يأتي في
هذا الباب من
أنواع
وأقسام؛
ويكاد كل عمل
يأتي به
الإِنسان، أو
قول يتلفظ به
يحتوى على
مظهر قوة أو
ضعف، فالصدق
قوة، والكذب
ضعف، والسؤال
يُسأل فيكون
قويًا،
ويغلبه في القوة
حسن الجواب،
وإثنان
يتجادلان على
تحديد موعد،
لابُدَّ أن
ينتهيا إلى
رأي، وصاحب الرأي
المقبول في
آخر الأمر في
موقف قوة؛
والرد السريع
على نداءٍ ما
قوة،
والتراخي
ضعف، والتعليق
الصائب على
منظرٍ ما قوة،
والتعليق المهتز
ضعف. وهكذا
الأمر في
الأعمال،
فالإحسان قوة،
والإِساءة
ضعف، والكرم
قوة، والبخل
ضعف، وذهابك
للتهنئة قوة،
وإهمالك
وتراخيك ضعف،
وإزالتك
الأذى عن
الطريق قوة،
وتركك إياه لغيرك
ضعف، وإدخال
الفرحة على
قلب يتيم أو
مسكين قوة،
وغضك البصر عن
ذلك ضعف.
وقيامك
بالواجب، أيا
كان، تجاه
ربك، أو نفسك،
أو الناس، قوة،
وإخلالك بهذا
الواجب ضعف،
وإذا أردت أن
تعرف نتيجة
الضعف في هذا،
فتذكر تجاهلك
الإِرشاد
الصحي، وما
يجلبه من
معاناة، وخذ
مثلاً التدخين،
الذي لم يعد
هناك شخص
بأبسط القوى
العقلية يشك
في ضرره، أما
الإقلاع عنه
أو التمسك به
فأمر منوط
بالإِرادة،
وليس في
اليقين بنفعه،
أو الشك في
ضرره.
ومادام
حاضرنا مليء بمظاهر
القوة
والضعف،
نراهما في كل
دقيقة، ولا حد
لهما، فلننظر
إلى بعض مظاهر
القوة في التراث،
وهو مليء
بهذا.
من
مظاهر القوة
أن يُدْعى
المرء إلى عمل
مشين، فيجد في
نفسه القدرة
على رفض ذلك،
ورد دعوة الداعي،
فيختار بهذا
لنفسه القوة
بدلاً من الضعف
والاستخذاء،
واليد العليا
بدلاً من اليد
السفلى، التي
أرادها له من
دعاه. والنص
الآتي يمثل
ذلك، مع عدم اليقين
بأن هذا حدث
فعلاً بين
المتحادثين،
وإنما يعنينا
من النص
فحواه، سواء
كان حادثًا أو
متخيلاً:
«قال
عبد الله بن
عباس لمعاوية:
هل
لك في
المناظرة
فيما زعمت أنك
خاصمت فيه
أصحابي؟
قال:
وما تصنع
بذلك، أشغب
بك، وتشغب بي،
فيبقى في قلبك
ما لا ينفعك،
ويبقى في قلبي
ما يضرك»(1).
وعبد
الله بن عباس،
إن صح الخبر،
أراد أن يجر معاوية
إلى حفرة
الضعف، إلا أن
معاوية منذ البداية
تَأَبَّى،
واختار أن
يكون وقوفه
على أرض قوية
صلبة، وزاد
الموقف
جمالاً،
والحديث
نبلاً، أن
أردف رفضه أن ينجر
إلى الهاوية
التي أرادها
له محدثه، بالسبب
الذي منعه من
الانسياق إلى
ما طلب منه أن ينساق
إليه،
وبالحجة التي
اعتمد على
ضيائها في
سلوكه الطريق
السليم. وهكذا
وقف معاوية عملاقاً،
في الحقيقة،
أو في خيال من
قص القصة،
واخترعها.
ومظهر
الشجاعة في
الرأي قوة،
والإِصرار
على الموقف في
ذلك تأكيد
لهذه القوة،
والإِنسان أغلى
ما يملك هو
عقله، لأنه
الجوهرة التي
في ضوئها
يسير، والنور
الذي بهديه
يتصرف في هذه
الحياة، وإذا
قاده رأيه في
طريق ارتضاه
بقي مخلصاً
لهذا العقل،
ظنينا به، لا يتخلى
عنه لأي سبب،
ولا يبيعه
بأغلى ثمن،
حتى لو أدى به
ذلك إلى
المعاناة
المتناهية،
والألم
الشديد، وهذا
موقف قوي،
يختاره
الإِنسان من
موقع تدبر
وتبصر،
والقصة
الآتية تعطي
فكرة عما
نقصده:
«قال
أبوالحسن:
خطب
الحجاج يوم
الجمعة فأطال
الخطبة، فقال
رجل:
«إن
الوقت لا
ينتظرك، وإن
الرب لا يعذرك».
فحبسه،
فأتاه أهل
الرجل،
وكلموه،
وقالوا:
«إنه
مجنون».
قال:
إن أقر
بالجنون خليت
سبيله.
فقيل
له: أقرّ
بالجنون.
قال:
لا، والله، لا
أزعم أنه
ابتلاني، وقد
عافاني»(2).
حسب
ما نعرف عن
الحجاج، وحبه
للصدق،
وإعجابه بأصحاب
العقول النيرة،
والمنطق
الصائب
الحسن، فإننا
نعتقد أن
الحجاج، إذا
كان بلغه رد
هذا الرجل،
فقد أمر
بإطلاقه!
والتمسك
بالخلق
الحسن، وعدم
الإنسياق مع
ما يجد عامة
الناس فيه
لذة، مما
يعتبر سيئًا،
ومضرًا
بالمجتمع،
ومنهيًّا
عنه، قوة،
فإذا أراد
مغتاب أن يصب
في أذن آخر ما
طفح به صدره
من ظلمة الخلق
السيء، فلم
يجد أذنًا
صاغية، بل
جاءه الرد
واضحاً، فهذا
مظهر قوة، إختار
صاحبه أن يقف
على التل
عاليًا، فلا
يسمه من الماء
الكدر، الذي
يمر تحته،
شيء، وترك من
اختار
المنحدر أن
يبقى فيه
وحده، وفي هذا
قوة إرادة لا
يعطاها إلا
ذوو العزم،
ولا يؤتاها
إلا ذو حظ
عظيم من
النعمة
والفضل اللذين
يهبهما الله
لمن يشاء من
عباده –
سبحانه
وتعالى –
والقصة
الآتية نموذج
لأمثال هذا
التمسك بالخلق
الحسن،
والأدب
المنير:
«أتى
رجل عمرو بن
عبيد فقال:
إن
الأسواري لم
يزل أمس يذكرك
ويقول: «الضّال».
فقال
عمرو: ياهذا، والله
ما رعيت حق
مجالسة هذا
الرجل حين
نقلت إلينا
حديثه، ولا
رعيت حقي حين
بلغتني عن أخي
ما أكره.
أعلمه أن
الموت
يعمّنا،
والبعث يحشرنا،
والقيامة
تجمعنا،
والله تعالى
يحكم بيننا»(3).
لقد
نظر هذا
العالم إلى
هذا الأمر
نظرة علمية،
اقتضته أن
يراعي المنطق
والعقل، وأن
يحمي الخلق
الحسن من أن
يمس. فالمنطق
والعقل جاءا
في تحليل موقف
ناقل «الغيبة»
تجاه المنقول
عنه،
والمنقول
إليه، وأبان
جانب السوء في
ذلك العمل، ثم
التفت إلى
جانب الدين،
حامي الخلق
الحسن،
والتصرف
الكريم، فأبانه،
وأحاله إلى
يوم يكون فيه
حكم عدل، يقرر
من المخطئ،
ومن المصيب،
ومن الشريف
ومن الوضيع.
لقد
ارتفع عمرو بن
عبيد إلى مقام
عال، أطل منه
على من كانا
في المنحدر،
وبقي هناك
أقرب إلى أن
يزيد في العلو
من أن ينزل،
وأصبح في موقف
القوة يتمتع
بمزاياها،
وهو وحده الذي
يعرفها،
لكثرة ما تردد
في طرقها،
ومشى في
جوادها، فهذا
الخلق الحسن
العميق لا
يأتي فجأة
بهذه القوة،
إنه يُغرس
صغيرًا،
وينمو مع
الإِنسان، ومع
التدريب
والتكرار.
* *
*
الهوامش:
(1) بهجة
المجالس: 2/430.
(2) البيان
والتبيين: 2/298.
(3) البصائر:
4/61.
مجلة
الداعي
الشهرية
الصادرة عن
دار العلوم
ديوبند ،
شعبان 1434 هـ =
يونيو - يوليو
2013م ، العدد : 8 ،
السنة : 37